قد يلاحظ البعض ممن يقرأ هذه المدونة أنني أُركّز كثيراً على مسألة تسويق النفس (سوّق نفسك) . لأنني أعتقد أنه ومن خلال خبرتي المتواضعة في العمل الحر والعمل الوظيفي أن النجاح يبدأ من هنا (أي تسويق النفس) . ومن خلال مشاهداتي واحتكاكي مع الآخرين ودراستي وتحليلي لأسباب نجاحهم وجدت أن العامل المشترك لهذا النجاح هو “تسويق النفس” .
سأطرح بعض الأسئلة التي سنستنبط منها فكرة تسويق النفس !
هل تعتقد أن من ليس لديه ثقة في نفسه يمكن أن ينجح أو أن يسوّق نفسه ؟
وهل تعتقد أن من ليس لديه ايمان بإمكانياته وقدراته يمكن أن يبدأ بمشروعه الخاص؟
أم أنك تعتقد أن من يفقد طموحه ويعيش بلا هدف يمكن أن يترك بصمة في حياته؟
أو أن من يعيش في عزلة اجتماعية يمكن له بلوغ أهدافه؟
في قصة حدثت معنا في شركة الرشيد على النقيض تماماً من قصة ذلك المدرب التي ذكرتها في تدوينتي (إياّك وبائعي الكلام) عندما عرض علينا وقتها تدريب كوادر الشركة على فنون التسويق والذي فشل تماماً في تسويق نفسه لدينا.
إليكم القصة :
دخل علينا بقامته المتوسطة وبشعره الأبيض الذي يعطيك الانطباع الأولي بأنك أمام بروفيسور جاهز لحل معادلة مستحيلة الحل ، كان يقف بجانبه مساعده يحمل حقيبة بيده اليمنى تبدو عليه ملامح الجدية والولاء المطلق لسيده. وقف أمام المدير العام وقال له “لا تقلق ، سأُصلح الآلة بإذن الله” . رد عليه المدير العام “ولكن لا بد أن تعلم أن غيرك قد حاول ولم يُفلح في إصلاحها ، أضف إلى علمك أن خبيراً من ألمانيا أتى إلى المعمل وفشل أيضاً في حل مشكلة هذه الآلة اللعينة” . “حسناً ما هي مشكلتها” قال المهندس ، “تتوقف عن العمل بعد فترات زمنية قصيرة ومتفاوتة” أجابه المدير العام ، ثم أتبع كلامه “آه ، لا تضع في بالك أنها مشكلة في الكهرباء ، فغيرك كان أشطر”.
وهنا أجاب المهندس بثقة “على العموم ما يهمك هو اصلاح الآلة وبإذن الله ستكون جاهزة خلال أيام”. سأله المدير العام “كم سيكلفنا إصلاح الآلة وكم من الوقت تحتاج” . رد المهندس “بالنسبة للكلفة فهي 10 آلاف ليرة في الساعة وأحتاج لأسبوع على الأكثر” ، المدير العام مصدوماً “ماذا ، 10 آلاف ؟ أليست كثيرة؟ وماذا إذا لم تنجح في إصلاحها؟” . أجاب المهندس بثقة “سأدفع لكم ثمن الآلة ، بالمناسبة كم يبلغ ثمنها؟”. “4 مليون ليرة” أجاب المدير العام . “أنا عند كلامي، ولنكتب هذا البند في العقد بيننا” أجاب المهندس.
سؤال على الهامش ، ماذا لو كنت مكان المدير العام ، هل كنت ستوافق على عرض المهندس؟
وافق المدير العام على العرض بعدما رمق المهندس بنظرة تحدي. ففي كلا الحالتين لن تخسر الشركة ، إن تم إصلاح الآلة فهذا هو مبتغانا وإن لم تُصلّح فسنحصل على آلة جديدة وفقاً للاتفاق الخطي المكتوب مع المهندس.
في تلك الحقبة كنت موظفاً في قسم الصيانة ، أي أنني أستطيع مراقبة المهندس وهو يعمل ، وكيف لا وهناك تحدٍ كبير ينتظره هو ومساعده وسيكون ممتعاً مراقبة شخصٌ واثقٌ بنفسه أيّما ثقة حتى أنني في البداية أحسست أنه مغرور ولكن كنت أراقب كلامه الذي لم يخلو من عبارة (بإذن الله).
وقف أمام الآلة وبدأ بتحليل المشكلة ، وعلى عكس باقي الخبراء فقد كان يتكلم بصوتٍ مرتفع ليُفهم من يحضر عملية الإصلاح ما هية الإجراءات التي يقوم بها . كان كلما حان موعد الصلاة يترك الآلة ويذهب مباشرةً لأداء الصلاة ، راقبته جيداً في كل الأوقات علّه يتأخر عن الصلاة في إحداها ولكن دون جدوى . لم أستطع مقاومة السؤال فسألته “يمكنك أن تؤجل الصلاة بضع دقائق حتى لا تقطع سلسلة أفكارك وأنت تُصلح الآلة؟” أجابني “وهل تعتقد أنني سأوفّق في إصلاحها إذا تأخرت عن الصلاة هذه الدقائق ؟” أتبع كلامه قائلاً ” لا والله ما كنت لأؤخرها دقيقة واحدة” . بصراحة أُعجبت بشخصيته وثقته بالله وبنفسه ، ولكن هل سينجح بعد هذا كله؟.
اليوم هو اليوم الثالث ، محاولات الإصلاح مستمرة ولكن دون جدوى . الوقت يمضي مسرعاً ، قطرات من العرق تتصبب من جبينه لتبلل عينيه ليقوم بمسحهما بعد أن تصيب عينيه بحرقة طفيفة. بدأ من يراقبه بالتململ وشيئاً فشيئاً لم يبقى معه إلا أنا وأحد المهندسين ومساعده.
بدأت أفكّر في منظره وهو يدفع للشركة ثمن آلة جديدة ، كيف سيكون موقفه حينها؟ كالعادة ، الشامتون كُثر ولا أعلم هل أكون معهم من الشامتين أم لا (معاذ الله طبعاً) ؟
الساعة قاربت على الرابعة عصراً ، فجأة انتفض واقفاً وقال بلهجة المنتصر “لقد نجحنا والحمد لله ؟ بإمكانكم استلامها وهي الآن تعمل دون توقف أو انقطاع”. لم نصدق ما سمعناه ، سألناه “هل أنت متأكد ؟ وماهو العطل؟” ، رفع يده ممسكاً بسبب العطل قائلاً “هذه الدارة المتكاملة التي لا تكاد يصل طولها إلى سنتي متر واحد هي سبب المشكلة” ، “وكيف اكتشفت أنها السبب؟” سألناه ، قال “ببساطة كانت تسخن بعد فترة وجيزة من العمل مما يؤدي إلى اضطراب في عملها وبالتالي إلى فصل الآلة عن العمل، على العموم بإمكانكم تجريب الآلة لتتأكدوا بنفسكم”.
فعلاً ، نجح في إصلاح الآلة واستحق مبلغ 300 ألف ليرة ثمناً لذلك ، ولكنه قبل ذلك نجح في تسويق نفسه ، كيف ذلك؟
أولاً ، امتلك الثقة بالله ثم بنفسه.
ثانياً ، استطاع أن يبعث الطمأنينة لدى المدير العام (الزبون) بأنه لن يخسر في كلا الحالتين (إن تم الإصلاح أم لم يتم) .
ثالثاً ، يعلم ما لديه من امكانيات وخبرات استطاع من خلالها تحديد الحد الأقصى زمنياً للاصلاح .
بالمناسبة ، هذا المهندس معروف لدى أصحاب المعامل بأنه رجل المهمات الصعبة والمستعصية وأنهم يلجأوا إليه عندما تضيق بهم السبل بسبب أن أجره مرتفع .
مثال آخر أحببت مشاركتكم به ، ولنتذكر دائماً أن من ينجح في تسويق نفسه ينجح في حياته العملية ..